فصل: باب ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وحض عليه من اتفاق أهل العلم، وما اجتمع عليه الحرمان مكة والمدينة وما كان بهما من مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار، ومصلى النبي صلى الله عليه وسلم والمنبر والقبر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المتواري على أبواب البخاري



.كتاب الرقاق:

.باب لا عيش إلا عيش الآخرة:

فيه ابن عباس- رضي الله عنه-: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ».
وفيه أنس وسهل: كنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالخندق، وهو يحفر ونحن ننقل التراب، ويمرّ بنا. فيقول:
«اللهم لا عيش إلا عيش الآخره ** فاغفر للأنصار والمهاجره»
قلت: رضي الله عنك! وجه دخول الحديث الأول في الترجمة أن الناس غبن كثير منهم في هاتين النعمتين إيثاراً منهم لعيش الدنيا على عيش الآخرة. فبيّن بحديث الترجمة أن العيش الذي شغفوا به ليس بشيء، إنما العيش هو الذي شغلوا عنه.

.باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه العمر:

لقوله عزّ وجلّ: {أولم نعمّركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير} [فاطر: 37] يعني الشيب.
فيه أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعذر الله إلى امرئ أخرّ أجله حتى بلغ ستين سنة».
وفيه أبو هريرة: لا يزال قلب الكبير شابًّا في اثنتين: حبّ الدنيا، وطول الأمل.
وفيه أنس: عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: «يكبر ابن آدم، وتكبر معه اثنتان: حب المال وطول الأمل».
وفيه عتبان بن مالك: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لن يوافى عبد يوم القيامة يقول: لا إله إلا الله، يبتغي بها وجه الله إلا حرمّ الله عليه النار».
وفيه أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول عزّ وجلّ! ما لعبدي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا إذا احتسبه إلا الجنّة».
قلت: رضي الله عنك! وجه مطابقة حديث عتبان للترجمة التنبيّه على أن هذا الإعذار لا يقطع التوبة بعد ذلك. وإنما هو إعذار لقطع الحجّة البالغة قبل هذا السن. وبقاء الرجاء بالأحاديث التي ساقها مع حديث الترجمة. فقبول الله التوبة لعبده بعد هذا السّن من فضله، لا من حق العبد على أنه لا حق له على الله قبل ولا بعد.

.باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها:

فيه عمرو بن عوف: إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة إلى البحرين يأتي بجزيتها فقدم بالمال فسمعت الأنصار بقدومه، فوافت صلاة الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما انصرف تعرضوا له فتبسم. قال: «أظنكم سمعتم بقدوم أبي عبيدة»، قالوا: أجل. قال: «فأبشروا وأمّلوا ما يسرّكم. فوالله! ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتلهيكم كما ألهتهم».
وفيه عقبة بن عامر: خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فصلّى على أهل أحد صلاته على الميت... الحديث. ثم قال: «وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض». قيل: ما بركات الأرض يا رسول الله؟! قال: «زهرة الدنيا». الحديث، على ما في (كتاب الزكاة، باب الصدقة على اليتامى).
فيه عمران أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويظهر فيهم السمن».
وفيه خباب: قال: إن أصحاب محمد مضوا، ولم تنقصهم الدنيا شيئاً. وإنما أصبنا من الدنيا ما لا نجد له موضعاً إلا التراب.
قلت: رضي الله عنك! وجه مطابقة هذه الترجمة لحديث عمر قوله: «ويظهر فيهم السمن» فذلك من زهرة الدنيا. ويحتمل أن يكون ساقه على أن السلف- رضي الله عنهم- سلموا من فتنة الدنيا، لأنه- عليه السلام وصفهم بأنهم خير القرون، إلى القرن الثالث، حذراً من أن يتخيّل إليهم أنهم افتتنوا بزهرة الدنيا، وأن الذي خشي عليهم وقع منهم فبرّأهم بحديث عمرو ويؤيده حديث خبّاب.

.كتاب القرآن:

.باب نزل القرآن بلسان قريش والعرب، وقوله تعالى: {قرآناً عربياً}، و{بلسان عربي مبين} [الشعراء: 195]:

فيه أنس: قال: أمر عثمان زيد بن ثابت، وسعد بن العاص، وعبدالله بن الزبير، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف. وقال لهم: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في عربيّة من عربية القرآن فاكتبوها بلسان قريش. قال: القرآن انزل بلسانهم، ففعلوا.
فيه يعلي بن أمية: إنه كان يقول: ليتني أرى النبي صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي. فلما كان بالجعرّانة وعليه الثوب قد أظلّ عليه، ومعه ناس من أصحابه، إذ جاءه رجل متضمّخ بطيب، فقال: يا رسول الله، كيف ترى في رجل أحرم في جبّة بعدما تضمخ بطيب، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، فجاءه الوحي فأشار عمر إلى يعلى أن تعال. فجاء يعلى، فأدخل رأسه. فإذا هو محمّر الوجه يغطّ كذلك ساعة، ثم سرّى عنه، فقال: «أين الذي سأل عن العمرة آنفاً؟» الحديث.
قلت: رضي الله عنك! حديث يعلى أقعد بالترجمة المتقدمة التي ضمنها نزول الوحي مطلقاً. وهذه خصّها بالقرآن. وكأنه قصد التنبيه على أن القرآن والسنّة كليهما بوحي واحد بلسان واحد.

.باب نزول السكينة والملائكة عند القراءة:

فيه محمد بن إبراهيم: عن أسيد بن حضير، بينا هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوطة، إذ جالت الفرس فسكت فسكنت. ثم قرأ فجالت فانصرف، وكان ابنه يحي قريباً منها فأشفق أن تصيبه. فلمّا أصبح حدّث النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: اقرأ يا ابن حضير، اقرأ يا ابن حضير. قال: فأشفقت يا رسول الله! أن تطأ يحيى. فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة، فيها أمثال المصابيح فخرجت حتى لا أراها وقال: وتدرى ما ذاك؟ قال: لا. قال: تلك الملائكة دنت لصوتك. ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم.
قلت: رضي الله عنك! ترجم على نزول السكينة والملائكة، ولم يذكر في هذا الحديث إلا الملائكة، لكن في حديث البراء في سورة الكهف تلك السكينة نزلت. فلمّا أخبر عن نزولها عند سماع القرآن، نبّه البخاري على تلازمهما، وفهم من الظلّة أنها السكينة. فلهذا ساقها في الترجمة. والله أعلم.

.باب فضل القرآن على سائر الكلام:

فيه أبو موسى: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيّب. والذي لا يقرأ القرآن كالتمرة طعمها طيب ولا ريح لها. ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيّب وطعمها مرّ. ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنطة طعمها مرّ ولا ريح لها».
وفيه عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما أجلكم فيما خلا من الأمم، كما بين صلاة العصر ومغرب الشمس. ومثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استعمل عمّالاً، فقال: من يعمل لي من نصف النهار إلى العصر على قيراط. فعملت النصارى. ثم أنتم تعملون من العصر إلى المغرب بقيراطين قيراطين. قالوا- اليهود-: نحن أكثر عملاً وأقلّ عطاء. قال: هل ظلمتكم من حقكم؟ قالوا: لا. قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء».
قلت: رضي الله عنك! وجه مطابقة الحديثين للترجمة أنه وصف حامل القرآن والعامل بالكمال، وهو اجتماع المنظر والمخبر. ولم يثبت هذا الكمال لحامل غيره من الكتب، فكيف بالكلام.

.باب من لم يتغنّ بالقرآن:

قوله تعالى: {أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} [العنكبوت: 51].
فيه أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لم يأذن الله لشيء ما أذن لنبيّ أن يتغنى بالقرآن». وقال صاحب له: يريد يجهر به. وقال مرّة: «ما أذن لنبيٍّ أن يتغنى بالقرآن». قال سفيان: تفسيره يستغني به.
وذكر في كتاب الاعتصام حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن». وزاد غيره: «يجهر به». ذكره في باب قوله تعالى: {وأسروا قولكم أو أجهروا به}. [المائدة: 13].
قلت: رضي الله عنك! يفهم من ترجمة البخاري أن يحمل التغني على الاستغناء لا على الغناء بكونه أتبع الحديث بالآية. ومضمونها الإنكار على من لم يستغن بالقرآن عن غيره من الكتب السالفة ومن المعجزات التي كانوا يقترحونها، وهو موافق لتأويل ابن عيينة. ولكن ابن عيينة حمله على الاستغناء الذي هو ضد الفقر. والبخاري يحمله على الاستغناء الذي هو أعمّ من هذا، وهو الاكتفاء.
مطلقاً ويندرج في ذلك عدم الافتقار إلى الاستظهار والاستغناء بالحق لأن فيه من المواعظ والآيات والزواجر ما نزع صاحبه عن حوائج الدنيا وأهلها. وأطال ابن بطال في نقل الردّ على من فسّره بالاستغناء، وإن ذلك مخالفة للغة. وقدح في الآثار التي استشهد بها المفسّر لابن عيينة. وعندي أن التفسير صحيح لغة، يدلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم، في الخيل: «ورجل ربطها تغّنيا وتعففاً». ولا خلاف لغة أنه مصدر تغني، ثم لا إشكال بعد أن تغنى بها. وهذا بمعنى استغنى بها وتعفف. ولم أقف على هذا الاستشهاد لغيري. والله الموفق.

.باب اغتباط صاحب القرآن:

فيه ابن عمر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا حسد إلا على اثنين: رجلّ آتاه الله الكتاب، فقام به آناء الليل والنهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو يتصدق به آناء الليل والنهار».
فيه أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنين: رجل علّمه الله القرآن فهو يتلو آناء الليل والنهار، فسمعه جارٌ له، فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي، فعملت مثل ما يعمل. ورجل آتاه الله مالاً فهو يهلكه في الحق». فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل.
قلت: رضي الله عنك! بينّ بالترجمة أن الحسد المذكور في الحديث هو الاغتباط. وقد فسّره في الحديث بتمنّي المماثلة في الخير، لا بتمنّي سلب الخير عن الغير وجرّه إليه.

.باب خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه:

فيه عثمان: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه». وقال أبو عبد الرحمن: وذلك الذي أقعدني مقعدي هذا. وقال مرّة: «إن أفضلكم من تعلّم القرآن وعلمّه».
وفيه سهل بن سعد: إن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: إنها قد وهبت نفسها لله عزّ وجلّ ولرسوله. الحديث. فقال رجل: زوّجنيها إلى قوله: «زوّجتكها بما معك من القرآن».
قلت: رضي الله عنك! مطابقة الأحاديث للترجمة بيّنة إلا حديث سهل.
وظنّ ابن بطال أن وجه مطابقته أنه زوّجه المرأة لحرمة القراءات، وليس كذلك. بل معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «زوّجتكها بما معك من القرآن» بأن تعلّمها ما معك من القرآن، فهو من قبيل التزويج على المنافع التي يجوز عقد الإجارة عليها. وعلى هذا حمله الأئمة. وهو الذي فهمه البخاري- رحمه الله-، فأدخله في باب تعليم القرآن. والله أعلم. وقد ظهر بهذا الحديث فضل القرآن على صاحبه في الدين والدنيا، ينفعه في دينه بما فيه من المواعظ والآيات، وينفعه في دنياه، لأنه قام له مقام المال الذي يتوصّل به إلى النكاح وغيره من المقاصد.

.باب تعليم الصبيان القرآن:

فيه ابن جبير: قال: إن الذي تدعونه المفصل هو المحكم. وقال: قال ابن عباس: توفيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين. وقد قرأت المحكم. قيل له: وما المحكم؟ قال المفصل.
قلت: رضي الله عنك! إنما ذكر قول ابن جبير توطئة لتفسير ابن عباس المحكم بالمفصل، وأنه تعلّمه وهو صبيّ.
ولو استشهد بمثل: (غطّوا است قارئكم)، وكان طفلاً لم يلتزم ستر عورته بعد، لكان أقعد بتعليم الصبيان.

.باب نسيان القرآن، وهل يقول: نسيت آية كذا وكذا:

وقوله تعالى: {ونقرئك فلا تنسى} [الأعلى: 6].
فيه عائشة رضي الله عنها قالت: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقرأ في المسجد، فقال: «يرحمه الله، لقد أذكرني آية كذا وكذا أسقطتهن في سورة كذا».
فيه عبد الله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما لأحدهم يقول: نسيت آية كيت وكيت، بل هو نسّي».
قلت: رضي الله عنك! ترجم على نسيان القرآن، فأضاف النسيان إليه، وذكر الأحاديث التي ظاهرها التعارض. فقوله صلى الله عليه وسلم: «أسقطتهن من سورة كذا»، يدّل على الجواز لأن الإسقاط نسيان، وقد أضافه إلى نفسه على أنه الفاعل، وإلى القرآن على أنه المتعلق. وقوله: «ما لأحدهم يقول: نسيت آية كذا»، إنكاراً لهذا الإطلاق، فأفهم أن محمل المنع غير محمل الإذن. فالذي منع أن يوهم بإطلاقه أنه ترك شيئاً من كتاب الله، لأن(نسى) مشترك بين (سها) وبين (ترك) قصداً. فما كان موهماً منع من إطلاقه. فأما قوله: «أذكرني آية أسقطتها»، فهو صريح في السهو بقرينة قوله: «لقد أذكرني» فزال الوهم فجاز الإطلاق. وظنّ الشارح أن النهى عن قوله: «نسيت» من قبيل إلزام إضافة الأفعال إلى الله لأنه خالقها حقيقة، وإضافتها إلى الغير مجاز. وهذا وهم منه، لأنه لو كان كذلك لا طرد في كل فعل، ولعارض قوله: «أسقطتهن» ثم هو خلاف الإجماع في جواز إضافة أفعال العباد إليهم مع العلم بأنه مخلوقة لله، فليس إلا ما قدّمته. والله أعلم. ولهذا خلص الوهم بقوله: «هو نسى»لأن هذا لا يوهم الترك من نفسه عمداً، فتأمله.

.باب الترتيل في القرآن:

{ورتل القرآن ترتيلاً} [المزمل: 4] وقوله تعالى: {وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً} [الإسراء: 106]. وما يهذّ كهذّ الشعر. وقال ابن عباس: فرقناه: فصلناه.
فيه عبدالله: إن رجلاً قال: قرأت المفصل البارحة، فقال: هذّا كهذّ الشعر. إنا قد سمعنا القراءة، وإني لأحفظ القرناء التي كان يقرأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة سورة من المفصل، وسورتين من آل حاميم.
وفيه ابن عباس: في قوله تعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به} قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل جبريل بالوحي، وكان مما يحرك به لسانه وشفتيه، فيشتد عليه. فأنزل الله سبحانه: {لا تحرك به لسانك لتعجل به}. الحديث.
قلت: رضي الله عنك! الصحيح في قوله: {وقرآناً فرقناه} أن المراد نزلناه نجوماً لا جملة واحدة، بخلاف الكتب المتقدمة، فإنها نزلت جملة. وهكذا معنى: {لتقرأه على الناس على مكث} فقرأه عليهم حسب نزوله في ثلاث وعشرين سنة. وعلى هذا التأويل يخرج عن مقصود الترجمة إلا أن يقال: لما أنزله منجّماً مفرقاً، ناسب هذا الأناة في تلاوته، وهو معنى الترتيل.

.باب حسن الصوت بالقراءة:

فيه أبو موسى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «لقد أوتيت مزمار من مزامير آل داود».
قلت: رضي الله عنك! حسن الصوت يطلق على وجهين: يطلق على الغنّة الخلقية، فهذا لا يترجم عليه لأنه غير مكتسب، ولا تكليف به. ويطلق على تعاطي حسن الصوت، فمن هو خلقه فيه فيزيده حسناً، وممّن ليس خلقه فيه، فيتسلق على أن يكتسبه. وهذا يدخل تحت التكليف والترجمة. وليحذر أن يتكلف من ذلك ما يفسد عليه أصل صلاته إن كان مصلياً، أو أصل الفضل إن كان تالياً. فقد رأينا بعضهم يكثر من التنحنح، يزعم أنه يصقل حلقه بذلك في أثناء الصلاة، فيبطل على نفسه وعلى مأموميه.

.باب قول المقرئ للقارئ: حسبك:

فيه عبدالله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: اقرأ على. قلت: يا رسول الله! اقرأ عليك، وعليك أنزل؟ قال: نعم. فقرأت سورة النساء، حتى أتيت إلى هذه الآية: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} [النساء: 41]. قال: حسبك. فالتفت إليه، فإذا عيناه تذرفان.
قلت: رضي الله عنك! مدخل هذه الترجمة في الفقه إزاحة الشبهة عمن يستمع إلى قارئ قرآن أو حديث، يعرض له مانع من ملل أو غيره، فله أن يكف القارئ، ولا يخرج بكونه قطع عليه التلاوة. ولا يعد فيمن استخفّ بكتاب الله، لأن الدين يسر.

.كتاب التمني:

.باب ما يجوز من اللو وقوله: {لو أن لي بكم قوة} [هود: 80]:

فيه ابن عباس: وذكر المتلاعنين، فقال عبدالله بن شداد هي التي قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كنت راجماً امرأة بغير بيّنة؟» فقال: «لا. تلك امرأة أعلنت».
وفيه ابن عباس: أعتم النبي صلى الله عليه وسلم بالعشاء فخرج عمر، فقال: الصلاة يا رسول الله! رقد النساء والصبيان. فخرج ورأسه يقطر يقول: «لولا أشقّ على أمتي لأمرتهم بالصلاة في هذه الساعة».
وفيه أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك».
وفيه أنس: واصل النبي صلى الله عليه وسلم آخر الشهر، وواصل أناس من الناس، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو مدّ بي الشهر لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم- الحديث-. وقال مرة: لولا تأخري لزدتكم كالمنكّل لهم.
وفيه عائشة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر بالبيت، وأن ألصق بابه بالأرض».
وفيه أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا الهجرة لكنت امرأًً من الأنصار، لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار واديا أو شعباً لسلكت وادي الأنصار أو شعب الأنصار».
قلت: رضي الله عنك! لو على وجهين: للشرط في المضي، وللمنى. فالتي للشرط خارجة عن الترجمة بالتمني. وإنما الاشتراك بينهما لفظي، وجميع ما أورده البخاري هاهنا من قبيل الشرطية لا التمني، إلا قوله تعالى: {لو أن لي بكم قوة}، فإدخاله تلك في الترجمة منتقد. والله أعلم.

.كتاب القدر:

.باب جف القلم على علم الله، وقوله: {وأضله الله على علم}:

وقال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «جف القلم بما أنت لاق» وقال ابن عباس: {لها سابقون} [المؤمنون: 61] سبقت لهم السعادة.
قلت: رضي الله عنك! التأويل في الآية محتمل لما أراد البخاري وهو إضافة العلم إلى الله. أي أضلّه الله على علمه القائم بأنه سيكون ضالاً. ويحتمل: {وأضلّه الله على علم} من هذا الضال بالحق ولكنه حاد عن علمه عناداً من قبيل: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} [النمل: 14] وعلى هذا يخرج عن الترجمة. والله أعلم.

.كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة:

.باب ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وحض عليه من اتفاق أهل العلم، وما اجتمع عليه الحرمان مكة والمدينة وما كان بهما من مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار، ومصلى النبي صلى الله عليه وسلم والمنبر والقبر:

فيه جابر: إن أعرابياً بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام- الحديث- فقال: أقلني بيعتي. الحديث. فقال: «إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وتنصع طيبها».
وفيه ابن عباس: كنت أقرئ عبد الرحمن بن عوف، فلّما كان آخر حجة حجّها عمر. قال عبد الرحمن بمنى: لو شهدت أمير المؤمنين أتاه رجل. فقال: إن فلاناً يقول: لو مات أمير المؤمنين فبايعنا فلاناً. فقال عمر: لأقومنّ العشية فأحذّر هؤلاء الرهط الذين يريدون يغصبونهم. قلت: لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس، ويغلبون على مجلسك. فأخاف أن لا ينزلوها على وجهها. ويطيروا به كل مطير. فأمهل حتى تقدّم المدينة دار الهجرة ودار السنّة. فتخلص بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، ويحفظوا مقالتك، وينزلوها على وجهها. الحديث.
وفيه محمد: كنا عند أبي هريرة، وعليه ثوبان ممشقان من كتّان، فتمخط فقال: بخٍ بخٍ أبو هريرة لقد رأيتني وإني لأخرّ فيما بين منبر النبي صلى الله عليه وسلم إلى حجرة عائشة مغشياً عليّ، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي، ويرى أني مجنون، وما بي جنون، ما بي إلا الجوع.
وفيه ابن عباس: قيل له: أشهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم! ولولا منزلتي منه من الصغر ما شهدته. أتى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت فصلى، ثم خطب. الحديث.
وفيه ابن عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء راكباً وماشياً.
وفيه عائشة: قلت لعبد الله بن الزبير: ادفني مع صواحبي، ولا تدفني مع النبي صلى الله عليه وسلم في البيت، فإني أكره أن أزكى.
وفيه هشام عن أبيه أن عمر أرسل إلى عائشة ائذني لي أن أدفن مع صاحبيّ، فقالت: أي والله!، وكان الرجل إذا أرسل عليها من الصحابة، قالت: لا والله، لا أوثرهم بأحد أبداً.
وفيه أنس: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى العصر، فيأتي العوالي، والشمس مرتفعة. قال يونس: وبعد العوالي أربعة أميال أو ثلاثة.
وفيه السائب: كان الصاع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مدًّا وثلثا بمدّكم اليوم وقد زيد فيه وفيه أنس: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم بارك في مكيالهم وبارك في صاعهم ومدّهم» يعني أهل المدينة.
وفيه ابن عمر: أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة زنيا فأمر بهما فرجما قريباً من حيث موضع الجنائز عند المسجد.
وفيه أنس: إن النبي صلى الله عليه وسلم طلع عليه أحد، فقال: «هذا جبل يحبّنا ونحبّه اللهم إن إبراهيم حرّم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها».
وفيه سهل: إنه كان بين جدار المسجد مما يلي القبلة وبين المنبر ممرّ الشاة.
وفيه أبو هريرة: ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة. ومنبري على حوضي.
وفيه ابن عمر: سابق النبي صلى الله عليه وسلم بين الخيل، فأرسلت التي أضمرت منها وأمدها إلى الحفياء- إلى ثنية الوداع. والتي لم تضمر أمدها ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق.
وفيه ابن عمر: سمعت عمر على منبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه عائشة: كان يوضع لي ولرسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المركن فنشرع فيه جميعاً.
وفيه أنس: حالف النبي صلى الله عليه وسلم بين الأنصار وقريش في داري التي بالمدينة. وقنت شهراً يدعو على أحياء من بني سليم.
وفيه أبو بردة: قدمت المدينة فلقيني عبدالله بن سلام، فقال لي: انطلق إلى المنزل فأسقيك في قدح شرب فيه النبي صلى الله عليه وسلم. وتصلى في مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم. فانطلقت معه فسقاني سويقا، وأطعمني تمراً وصلّيت في مسجده.
وفيه عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني الليلة آت من ربي، وهو بالعقيق، أن صلّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة وحجة».
وفيه ابن عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم أرى في معرسه، وهو بذي الحليفة، فقيل له: إنك ببطحاء مباركة.
وفيه ابن عمر: وقت النبي صلى الله عليه وسلم قرناً لأهل نجد، والجحفة لأهل الشام، وذا الحليفة لأهل المدينة. وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ولأهل اليمن يلملم»، وذكر له العراق، فقال: لم يكن عراق يومئذ.
قلت: رضي الله عنك! ذكر هذه الترجمة في كتاب الاعتصام، فساق فيها الأحاديث والآثار التي تضمنت ذكر ما يستحق أن يعتصم به، ويتيمّن من بقعة تختار للسكنى، وتقصد للبركة، ويعتمد على أهلها في أحكام الملة، ونوازل الدين كالمدينة. وحديث ابن عوف أقعد بهذا المعنى، فإن المدينة عادت عليها وعلى أهلها بركة النبي صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً، حتى حركاته الجبلية، فضلاً عن الشرعية تفيدها خصوصية، وتزيدها مزية، مثل خروجه إلى العوالي على الوجه الذي صارت مسافتها معلماً من معالم الصلاة. ولذكر دار فلان الذي اشتهرت مبانيها في هذا الحديث فصارت مشهداً للصلاة. وعلى الجملة فإذا كانت مواطنها ومساكنها مفضلة مقتدى بها في الأحكام مواقيت ومشاهد. فكيف ساكنها وعالمها؟. فإذا كان جبلها قد تميزّ على الجبال. فكيف لا يتميز عالمها على العلماء في مزية الكمال؟ وإذا عادت بركة كون النبي صلى الله عليه وسلم على الجمادات بالسعادات فكيف لا تعود بركته على أهل الديانات بالمزايا والزيادات؟
فرحمه الله على مالك لقد أنزلها منزلها، وعفا الله عمن كثر عليه في الاحتجاج بإجماعها، ولقد تريّب بالشبهة وقنع بسماعها وإسماعها. وظهر لي من ترجمة البخاري أن الله شرح صدره لما شرح له صدر مالك من تفضيلها، ومن قاعدته في الاعتبار بإجماعها على جملتها وتفضيلها. والله أعلم.

.باب قول الله عز وجل: {ليس لك من الأمر شيء} [آل عمران: 128]:

فيه ابن عمر: سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في صلاة الفجر: «اللهم ربنا لك الحمد في الآخرة». ثم قال: «اللهم العن فلاناً وفلاناً» فأنزل الله تعالى: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبّهم فإنهم ظالمون} [آل عمران: 128].
قلت: رضي الله عنك! أدخل البخاري هذه الترجمة في كتاب الاعتصام بالسنة ليحقق أن الاعتصام في الحقيقة إنما هو بالله، لا بذات الرسول صلى الله عليه وسلم. إذا الرسول صلى الله عليه وسلم معتصم بأمر الله، ليس له من الأمر بشيء إلا التبليغ.
والتبليغ أيضاً من فضل الله وعونه. ألا إلى الله تصير الأمور.

.- باب قول الله عزّ وجلّ: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً} [الكهف: 54]، وقوله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} [العنكبوت: 46]:

فيه علي: إن النبي صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما: «ألا تصلّون؟» فقلنا: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا. فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرجع إليه شيئاً. وهو مدبر يضرب فخذه وهو يقول: «{وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً} [الكهف: 54]».
وفيه أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «انطلقوا إلى يهود»، فخرجنا معه حتى جئنا إلى بيت المدراس. فناداهم النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معشر اليهود، أسلموا تسلموا». فقالوا: بلغت يا أبا القاسم! فقال: «ذلك أريد، أسلموا تسلموا». فقالوا: قد بلّغت- قالها ثلاثاً- قال: «اعلموا أنمّا الأرض لله ولرسوله. وإنما أريد أن أجليكم من هذه الأرض، فمن وجد منكم بماله شيئاً فليبعه، وإلاّ فاعلموا أنما الأرض لله ولرسوله».
قلت: رضي الله عنك! أدخل الجدال المذكور في الآية في كتاب الاعتصام لينّبه على أن المذموم منه ضدّ الاعتصام فيجب تركه. والمحدود معدود من الاعتصام. مثل الأوّل بالآية الأولى، والثاني بالثانية.

.باب الحجة على من قال: إن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة، وما كان يغيب بعضهم عن مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم وأمور الإسلام:

فيه أبو موسى: إنه استأذن عمر فوجده مشغولاً، فرجع. فقال عمر: ألم نسمع صوت عبدالله بن قيس؟ ائذنوا له، فدعي به. فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: كنا نؤمر بهذا. قال: لتأتيني على هذا ببيّنة أو لأفعلنّ بك. فانطلق إلى مجلس الأنصار، فقالوا: لا يشهد إلا أصاغرنا، فقام أبو سعيد الخدري، فقال: كنا نؤمر بهذا. فقال عمر: خفي علي هذا من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألهاني الصفق بالأسواق.
وفيه أبو هريرة: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم والله الموعد، إني كنت امرأً مسكيناً ألزم النبي صلى الله عليه وسلم على ملء بطني. وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فشهدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم قال: «من يبسط رادءه حتى أقضي مقالتي ثم يقبضه فلن ينسى شيئاً سمعه مني». فبسطت بردة كان عليّ. فوالذي بعثه بالحق ما نسيت شيئاً سمعته منه.
قلت: رضي الله عنكّ ردّ بهذه الترجمة وما معها قول من زعم أن التواتر شرط قبول الخبر وحقّق بما ذكره قبول خبر الآحاد، وأدخله في الاعتصام، لأن التمسك به واجب.

.باب الأحكام التي تعرف بالدلائل، وكيف معنى الدلالة وتفسيرها:

قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الخيل، ثم سئل عن الحمر فدلّهم على قوله: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} [الزلزلة: 7]. وسئل عن الضبّ، فقال: لا آكله ولا أحرّمه. وأكل على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم، فاستدل ابن عباس أنه ليس بحرام.
فيه أبو هريرة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر». الحديث. وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمر، فقال: «ما أنزل الله عليّ فيها إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: {فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره}».
وفيه عائشة إن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الحيض كيف تغتسل منه؟ قال: «تأخذين فرصة ممسكة فتوضئي بها». قالت عائشة: فعرفت الذي يريد النبي صلى الله عليه وسلم فجذبتها إليّ فعلّمتها.
وفيه ابن عباس: إن أمّ حفيد أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سمناً وأقطا، وأضباً، فعابهن النبي صلى الله عليه وسلم فأكلن على مائدته. فتركهن النبي صلى الله عليه وسلم كالمتقذر له. ولو كنّ حراماً ما أكلن على مائدته، ولا أمر بأكلهن.
وفيه جابر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا أو ليعتزل مسجدنا- وليقعد في بيته». وإنه أتى ببدر- وقال ابن وهب: يعني طبقاً فيه خضرات من بقول- فوجد لها ريحاً فسأل عنها فأخبر بما فيها من البقول. فقال: قرّبوها إلى بعض أصحابه كان معه. فلمّا رآه كره أكلها. قال: «كل، فإني أناجي من لا تناجي». وقال ابن وهب: «بقدر فيه خضرات».
وفيه جبير بن مطعم: إن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وكلمته بشيء، فأمر بها. فقالت: أرأيت يا رسول الله، إن لم أجدك. فقال: «إن لم تجديني فأتي أبا بكر». وزاد لنا الحميديّ عن إبراهيم بن سعد: «كأنها تعني بالموت».
قلت: رضي الله عنك! أدخل هذه الترجمة في كتاب الاعتصام تحذيراً من الاستبداد بالرأي في الشريعة، وتنبيهاً على الرأي المحمود فيها، وهو المستند إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم أو إشارته أو قرينة حاله، أو فعله، أو سكوته عن فعل إقراراً عليه. ويندرج في هذا الاستنباط التعلق بما وراء الظاهر وعدم الجمود عليه، فدخل في ذلك تصحيح الرأي المنضبط، والردّ على الظاهرية وغيرهم. وبذلك تبيّن ما هو اعتصام مما هو استبداد واسترسال.

.باب النهي عن التحريم إلا ما تعرف إباحته:

وكذلك الأمر نحو قوله: «حين أحلّوا»: أصيبوا من النساء. قال جابر: ولم يعزم عليهم ولكنّه أحلهن لهم.
وقالت أم عطية نهينا عن إتباع الجنائز، ولم يعزم علينا.
فيه جابر: أهللنا- أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الحج خالصاً ليس معه عمرة. فقدم النبي صلى الله عليه وسلم صبح رابعة مضت من ذي الحجة. فلمّا قدمنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نحلّ. وقال: «أحلّوا وأصيبوا من النساء». قال جابر: ولم يعزم عليهم، ولكن أحلهن لهم. فبلغه أنا نقول:- لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس- أمرنا أن نحلّ إلى نسائنا، فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني. فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «قد علمتم أني أتقاكم لله وأبرّكم وأصدقكم، ولولا هديي لحللت كما تحلّون فحلّوا، فلو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت». فحللنا وسمعنا وأطعنا.
وفيه عبدالله المزني: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «صلّوا قبل صلاة المغرب».- وقال في الثالثة: «لمن شاء»، كراهية أن يتّخذها الناس سنّة.
وفيه جندب: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اقرأ والقرآن ما ائتلفت قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه».
وفيه ابن عباس: لمّا حضر النبي صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب- فقال: «هلمّ أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده». قال عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، وعندكم القرآن، فحسبنا كتاب الله عزّ وجلّ. واختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قرّبوا، يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً لن تضلّوا بعده. ومنهم من يقول ما قال عمر. فلمّا كثر اللغط والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قوموا عنّي». فكان ابن عباس يقول: إن الرزيّة كل الرزّية ما حال بين أن يكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب من أجل اختلافهم ولغطهم.
قلت: رضي الله عنك! قصد بهذه الترجمة التنبيه على أن المخالفة التي وقعت أحياناً لما طلب منهم لم تكن عدولاً عن الاعتصام إذ لم يخالفوا واجباً ولم يؤثر عنهم ذلك. وصور المخالفة فهموا فيها عدم العزم عليهم وتمكينهم من بعض الخيرة. وهذا في الحقيقة ليس خلافاً، ولكنه إخبار لما كان لهم فيه خيار، وإن كان العلماء المحققون أنكروا اجتماع الطلبة والخيرة ولو كان الطلب ندباً، وعدّوا ذلك تناقضاً لا سبيل إليه شرعاً، ولا يوجد من العلماء من أجاز ذلك وهو نفس البخاري. والله سبحانه وتعالى أعلم.